عاجل

محمد محمود يكتب: القدس و المورسكيون ...متى نتعلم الدرس؟

استمر الحكم الإسلامي فى أرض الأندلس قرابة ثمانية قرون , شهدت خلالها أوروبا  نقلة حضارية حولتها من عصور ما قبل التاريخ إلى المدنية و الحضارة و التقدم , ولكن شاخت الدولة الأندلسية بعد أن تخلت عن مصدر قوتها و سقطت سقوطا مدويا و لنا أن نتسائل كيف سقط الأندلس رغم أن بعض مدنها كانت شديدة التحصين ؟


يمكننا أن نلخص ذلك في عاملين أساسيين :


1- الخيانة

2- غياب الوعي بطبيعة الصراع


تعرضت العديد من المدن الأندلسية للخيانة من قبل بعض المسلمين الذين ركنوا إلى الدنيا و نسوا دينهم و سعوا وراء عرض زائل ممكن , يقول المؤرخ النصراني كوندي: (العرب هووا عندما نسوا فضائلهم التي جاؤوا بها، وأصبحوا على قلب متقلب يميل إلى الخفة والمرح والاسترسال بالشهوات)    , كل ذلك أدى لسقوط بعض المدن الحصينة بل وصلت الخيانة إلى أمراء و زعماء بعض المدن الذين سلموا مدنهم عن طيب خاطر للنصارى , و مدن أخرى غاب عنهم أصل و حقيقة الصراع بين المسلمين و نصراى أوروبا , فعقدوا معهم اتفاقيات سلام و أهملوا تقوية جيوشهم و تدعيم صفوفهم و تربية أبنائهم وشبابهم على العقيدة الصحيحة , تناسوا أن الجيوش الصليبية لم تتحرك إلا بوزاع و تحريض من البابا فى روما , فاستكانوا لإتفاقيات مزعومة نقضت اتفاقية تلو الأخرى و سقطت المدن مدينة تلو الأخرى و لم يتعلم المسلمون الدرس , ظلوا معتقدين أنه مجرد  صراع على الأرض أو على الموارد الإقتصادية و الكنور الطبيعية حتى سقطت الأندلس بالكامل عام 1492 م و العجيب أن اخر مدينة أندلسية - مدينة غرناطة - كررت نفس الخطأ فعقدت اتفاقية تسليم بين فرناندو وإيزابيلا ممثلا الجيوس الصليبية الأوربية  و بين ملك غرناطة أبي عبد الله محمد المعروف بالـ"الصغير" , شملت الإتفاقية 67 بندا منها ما يلي :


البند (4): يتعهَّد جلالتهما وخلفاؤهما إلى الأبد، بأن يُترك الملك المذكور أبو عبد الله والقادة والوزراء والعلماء والفرسان وسائر الشعب، تحت حكم شريعتهم، وألَّا يؤمروا بترك شيءٍ من مساجدهم وصوامعهم، وأن تترك لهذه المساجد مواردها كما هي، وأن يُقضى بينهم وِفْقَ شريعتهم وعلى يد قضاتهم، وأن يحتفظوا بتقاليدهم وعوائدهم.


البند (14): أن يُعامل الملك أبو عبد الله المذكور وسائر السكان المسلمين، برفقٍ وكرامة، وأن يحتفظوا بعوائدهم وتقاليدهم، وأن يُؤدَّى للفقهاء حقوقهم المأثورة وفقًا للقواعد المرعيَّة.


البند (20): أنَّه يبقى دخل الجوامع والهيئات الدينيَّة أو أيَّة أشياء أخرى مرصودة على الخير، وكذا دخل المدارس، متروكًا لِنظر الفقهاء، وألَّا يتدخل جلالتهما بأيَّة صورة في شأن هذه الصدقات أو يَأْمُرَا بأخذها في أيِّ وقت.


البند (31)، (33): نصَّت هذه البنود على حرية العبادة، وبقاء المسلمين على دينهم، وعدم إجبارهم على النصرانية، بل وعدم إجبار النصارى الذين أسلموا أو أولاد الروميَّات على ترك الإسلام.


و بنود اخرى كثيرة كلها تفضى إلى ما يشبه الحكم الذاتي للمسلمين , و تعهد الملكين بـ  "أن ملكي قشتالة يؤكدان ويضمنان بدينهما وشرفهما الملكي، القيام بكل ما يحتويه هذا العهد من النصوص، ويوقعانه باسميهما ويمهرانه بخاتميهما"  و اقتنع المسلمون بوفاء الملكين الحاقدين ببنود تلك المعاهدة فسلموا غرناطة و فور دخول الجيوش الصيليبة إلى غرناطة و استقرار مقاليد الحكم فى أيديهم تم نقض المعاهدة و بدئوا بعمل أوضح بجلاء شديد الهدف من كل تلك المعارك و الحروب مع المسلمين , فكان أول الغدر تحويل مسجد الطيبين إلى كنيسة وكذلك مسجد الحمراء، ثم تحويل مسجد غرناطة الأكبر إلى كاتدرائية مستغليم فى ذلك الكنور الذهبية التى استولوا عليها من اهالى و حكام غرناطة المترفين و تبع ذلك تأسيس فرق التنصير لإجبار المسلمين على إعتناق النصرانية , أولئك الممسلمون الذين عرفوا في التاريخ باسم " المورسكيون " ,  و دارت رحى مجزرة بشعة تم فيها تعذيب مئات الالاف من المورسكيون بطرق مقززة للغاية و تم طرد ما يقارب مليون مسلم  حتى عام 1609 م حين أصدر الملك فيليب الثالث قرار الطرد الكامل للمسلمين  و أندثرت الأندلس حتى يومنا هذا تحت ركام الحقد الصليبي الغاشم .


عندما تتأمل تاريخ سقوط الأندلس تجد تطباقا عجيبا مع سقوط فلسطين بشكل عام و القدس بشكل خاص , فكلاهما تعرضا لحملات دينية حاقدة و لإستعمار إحلالي  بغيض فى ظل حكام ضعفاء و شعوب مخدوعة , تعالوا نتأمل سريعا كيف سقطت فلسطين عبر التاريخ الحديث فى إيجاز شديد :


1- 1917 م : وعد بلفور لليهود بوطن على أرض فلسطين , استلتزم ذلك الوعد اكثر من ثلاثين عام لتنفيذه كانت الشعوب العربية حكاما و محكومين تغط خلالها في نوم عميق و من انتفض منهم و تحرك تعرض لخيانات جسيمة .


2-  1947 م : أصدرت الأمم المتحدة (الواقعة تحت السيطرة الكاملة لأمريكا و بريطانيا) قرار التقسيم الذي يقضى بإقامة دولتين على ارض فلسطين احدهما للعرب تحتل 42% من المساحة و اخرى لليهود تحتل 58% من المساحة  , وهنا ثار العرب و هاجوا و ماجوا و تجهزوا بجيوش هزيلة خرجت من تحت عباءة حكام خونة باعوا القضية و قبضوا الثمن .


3- 1948 م : أعلن اليهود دولتهم و نشيت حرب بين جيوش عربية مهلهلة و كتائب صهيونية تتلقى دعما أمريكا و بريطانيا , و العجيب أن الإنتصار كان حليفا للجيوش العربية ثم تم عقد هدنه نقضها اليهود و تدخل عنصر الخيانة لتنتهي المعركة بإنتصار عصابات اليهود , و اعتقد العرب أن اليهود سيلتزمون بقرار الامم المتحدة و لكنهم كالعادة نقضوا العهد و سيطروا على 78% من مساحة فلسطين و هجروا أكثر من مليون إلا الربع فلسطيني من أرضهم .


4- 1967 م : تحولت تدريجيا القضية من صراع بين المسلمين و اليهود إلى صراع بين القومية العربية و اليهود و غاب الدافع الإسلامي  تحت وطأة حكم مجموعة من الحكام المغتصبين فكريا من الشرق و الغرب و تم تأسيس منظمة علمانية لتمثل الشعب الفلسطيني و تدافع عن حقوقه و هنا أتت النكسة و هزمت الجيوش العربية هزيمة نكراء و احتل الجيش الصهيوني كامل أرض فلسطين الحبيبية ( بالإضافة لسيناء المصرية و هضية الجولان السورية  و مزارع شبعة اللبنانية) .


5- 1978 م : وقعت معاهدة كامب ديفيد والتى نصت على إنشاء "سلطة حكم ذاتي" في الضفة الغربية وقطاع غزة على أن تتبع لاحقا "بمحادثات الوضع النهائي" , و بناء على ذلك تم إبعاد أقوى الجيوش العربية عن ساحة الصراع و أمن الصهاينة على دولتهم اللقطية .


5- 1980 م : أصدر الكنيست الإسرائيلي قرارا بضم القدس الموحدة عاصمة أبدية لإسرائيل , ثار العرب و ارتفعت الحناجر ساخطة فتعطف الصهاينة على العرب بالموافقة على المحاثات و المفاوضات المباشرة , و فرح قادة العرب و اعتقدوا ان الحل قادم و على الرغم من  أن ذلك العقد شهد مذابح صيهوينة مروعة فى حقوق المسلمين إلا أن قادة العرب ظلوا يلهثون وراء المفاوضات .


6- 1993 م : تم توقيع اتفاقية أوسلوا و شملت اعترافا بحق إسرائيل فى الوجود على أن يتم منح الفلسطينين دولة مستقلة منزوعة السلاح على 22% من مساحة فلسطين بيما يعترف الفلسطينين بأحقية الصهاينة فى 78% من مساحة فلسطين , و رغم موافقة العرب إلا أن الصهاينة نقضوا الإتفاقية و لم يقنعوا ب 78% من مساحة فلطسين و طالبوا بالمزيد .


7- 2002 م : على الرغم من تنازلات العرب المتتالية فلم يوف الصهاينة بوعودهم ولم ينفذوا أى من بنود فى إتفقاقية اسلوا فأقدم قادة العرب على طرح مبادرة فى القمة العربية فحواها تطبيع كامل مع الكيان الصيهوني في مقابل دولة فلسطينية على حدود 67 و القدس الشرقية عاصمة لفلسطين , و هنا يواصل العرب انبطاحهم فلا حديث عن اللاءات الثلاثة ولا حديث عن طرد العصابات الصهوينية من فلسطين ولا حديث عن القدس عاصمة لفلسطين و إنما اعتراف كامل بإسرائيل و بحقها في جزء كبير من القدس , و كالعادة رفض  الكيان الصهيوني  ذلك العرض المغري  .


8- 2018 :   اعترفت أمريكا ومعها قرابة 32 دولة بالقدس عاصمة لإسرائيل وتم نقل السفارة الأمريكية إلىها , ومازال قادة العرب مصرون على أن المفاوضات و الإتفاقات هما الحل الأوحد للخروج من الأزمة . 


إذا كيف نستفيد من دروس التاريخ؟ كيف نستطيع استعادة القدس المسلوبة و فلسطين المحتلة ؟


بداية لابد أن نتفق على شيئين :


1- لا أمل فى مفاوضات بين كيان غاصب يمتلك كل أسباب القوة و تدعمه أقوى دول العالم وبين اناس عزل يعانون من الخذلان .


2- لا أمل فى قادة جل اهتمامهم تثبيت دعائم حكمهم و إلهاء شعوبهم بخطاب إعلامي متلون .


إذا فالحل يكمن فى الشعوب نفسها , فكل منا إما ان يكون خطوة فى طريق إستعادة القدس أو خطوة فى طريق ضياعها إلى الأبد , ليست مساندتك الأهم للقضية الفلسطينية هي التبرع و المقاطعة وقطعا ليست الخروج فى المظاهرات و رفع اللافتات , و إنما دورك الأهم هو التربية و بناء المسلم الواعي صاحب الشخصية المتزنة المتكاملة  , تربية نفسك و أهلك و أبنائك التربية الإسلامية الصحيحية و إكسابهم النظرة الشريعة السديدة للأمور , تنقية عقولهم من تلك الأفكار التى دأب الإ‘لام على غرسها فى عقل الأمة الجمعي ,  تعليمهم أن الصراع بيننا و بين اليهود ليس صراعا سياسيا و إنما صراعا وجوديا عقديا , لابد من ننشأ انفسنا و ابنائنا على معاني الولاء والبراء الحقيقة , فلا ولاء على حدود صنعها المحتلون و إنما الولاء على الإسلام , فالمسلم فى فلسطين أخ لى , أرضه كأرضى , عرضه كعرضي , دمه كدمي , أغضب لإنتهاك حرماته كما أغضب لإنتهاك حرمات أخي من أبي و أمي  , لابد أن يعلم أبنائنا و إخوننا عن تاريخ الصراع على أرض فلسطين وكيف ضاعت بلادنا و كيف سنتعيدها بإذن الله , لابد أن يعلموا ان صراعنا مع اليهود ممتد عبر التاريخ من غزوة خيبر عام 7 هـ حيت تم إجلاء اليهود عن المدينة وحتى الان و سيستمر حتى يتحقق موعود الله , إن ذلك المعنى حاضر بجلاء عند الصهاينة فمثلا موشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلي أثناء نكسة 67 قال بوضوح عقب اتتصارهم " هذا يوم بيوم خيبر" , إن البعد الديني بارز للغاية فى تلك الدولة اللقيطة و لابد أن يكون جليا كالشمس فى رابعة النهار لنا  أيضا فنحن اصحاب الحق , لا ينغي أن نسمح للإعلام بتبديل قناعتنا و طمس هويتنا , كن أنت الإعلام البديل , رب ابنك على تلك المعاني الصحيحة , علمه أنه دينه ليس فى المسجد فقط و إنما فى كل شىء في حياته , فى عقائده و معاملاته و سلوكياته و نظرته للأحداث , علمه أن القدس لن يعود على يد معاقر للخمر ولا أكل للربا ولا غاش فى الإمتحانات  و لا عاق لوالديه ولا ساب للدين ولا كاتم للحق  ولا جاهل بالعلوم  الدينية و الدنيوية ولا مدرك لموازين القوى و الضعف  , فلا نهضة لنا كشعوب عربية إلا عندما يختلط الإسلام باللحم و العظم فيصبح منظما لكل خيارتنا و دوافعنا فى الحياة , فنحن لم نذق الذل إلا عندما تخلينا عنه  و صدق عمر بن الخطاب عندما قال " نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله" .